السلام عليكم ورحمة اللهـ وبركااتهـ
قال تعالى: “قال كذلك قال ربك هو عليّ هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا. فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا” (مريم: 2123).
تكلمنا في المقالة السابقة عن محاورة السيدة مريم عليها السلام للمَلَك، وحملنا استفهامها في قولها: “أنى يكون لي غلام” على الاستبعاد والاستغراب والتعجب، وقلنا: ان ذلك لم يكن تشكيكاً منها في قدرة الله تعالى، وإنما كان استبعادا من حيث مخالفته العادة، كما أنه لم يحدث له نظير من قبل في تاريخ البشرية. ووضحنا سر مجادلة مريم المَلَك ومحاورتها له.
وقد تكررت جملة “قال ربك هو علي هين” في قصة زكريا عليه السلام وما قلناه في صياغة تلك الجملة يغني عن الإعادة هنا.
وفي نهاية المقالة السابقة طرحت تساؤلات عدة منها: كم كانت مدة حمل السيدة مريم؟ وماذا فعلت بعد حملها؟ ولماذا كان هذا الحمل من أصله؟
مدة الحمل
اختلف المفسرون في تحديد مدة حمل السيدة مريم عليها السلام فقيل: كانت مدة حملها وولادتها ساعة واحدة، وقيل: كانت مدة حملها تسعة اشهر كبقية النساء وهذا ما تطمئن نفسي إليه لأنه لو كانت المدة مخالفة للعادة لاستحسن ذكرها في ثنايا القصة، وقيل: كانت مدة حملها ستة اشهر، وقيل: ثمانية اشهر، لأن هذه المدة اقوى في الدلالة على قدرة الله، حيث لا يعيش من ولد لثمانية اشهر. وهذا رأي مردود عليه عندي، لأن القصد في البرهان على كمال قدرة الله تعالى ومخالفة الاسباب للمسببات انما كان في خلق عيسى عليه السلام من غير أب، ولو كان القصد بيان قدرة الله تعالى في مدة الحمل، لكان الأحرى قبول الرأي القائل بأن مدة حملها وولادتها كانت ساعة واحدة. والله اعلم بمراده.
المهم ان تعرف ان قوله: “وكان أمرا مقضيا” قطع لمجادلة السيدة مريم ومحاورتها المَلَك، وانباء بأن الحمل قد حصل في رحمها فور تلك المراجعة وهذا ما انبأ عنه حرف العطف الفاء في قوله سبحانه: “فحملته”. والفاء هنا أنبأت عن القدرة الإلهية المطلقة واشعرت ايضا باختزال الزمن بل بتلاشيه فعندما يريد سبحانه شيئا فإنه يقع بأمر “كن فيكون”. وبذلك يلغى الاحساس بالزمن. هكذا دلت الفاء على معجزة حمل مريم بعيسى عليه السلام من دون فاصل زمني بين انتهاء مجادلتها المَلَك وبين تخليق عيسى عليه السلام في بطنها، ولو قيل: (ثم حملته)، لأشعر هذا بوجود فاصل زمني بين تبشيرها بولدها وبين حملها به، ولكن هذا غير مراد، لعدم دلالته على كمال القدرة الالهية المطلقة للإيجاد من دون زمن، ولذا كان الموقع للفاء لا ل (ثُم) والله اعلم.
اعتزال الناس
وبعد ان تم الحمل تركت مريم معتكفها، وتنحت بالحمل إلى مكان بعيد. وانما بعدت بالحمل، فرارا من تعيير قومها إياها بالحمل من غير زوج. تقرأ هذا في قوله تعالى: “فحملته فانتبذت به مكانا قصيا”. والحمل: العلوق. والانتباذ: الاعتزال، والصيغة تدل على تطلبها لهذا الاعتزال، وأنها اعتزلت مختارة، لئلا تُعير من قومها كما قلت. والجار والمجرور وقع حالا من ضميرها المستتر، والتقدير: “فانتبذت ملتبسة به” والباء هنا لتأكيد لصوق الحمل في بطنها. ومعنى “قصيا”: بعيدا عن مكان اهلها ودلت الفاء في قوله سبحانه: “فانتبذت به” على مسارعة مريم عليها السلام إلى التواري والابتعاد بحملها عن اعين الناس، لأنها لا تقوى على مواجهتهم. وهكذا حملت هذه الفاء مريم عليها السلام بسرعة خاطفة إلى مكان تأمن فيه على نفسها وعلى حملها. ولو قيل: “فحملته ثم انتبذت به” لأشعر هدا بتلكئها في اعتزال الناس والابتعاد عن اتهاماتهم، وهذا غير مراد، لمنافاته للحالة النفسية التي كانت عليها والتي كانت تشعر بها، ولذا فإنها قررت من دون تردد أو تفكير الاعتزال والتواري في مكان بعيد، وهذا ما أوحى به حرف الفاء.
وقوله سبحانه : “فأجاءها المخاض” أي جاء بها أو ألجأها. والمخاص: وجع الولادة إذا دنت. ومعنى الجذع في قوله: “الى جذع النخلة” ساق النخلة اليابسة وأصلها. والتعريف في “النخلة” إما للجنس ان كان المراد واحدة من النخل لا على التعيين أي من غير ان يقصد نخلة معينة. وقد يكون التعريف للعهد ان كان المراد نخلة معينة، أو اذا لم يكن ثمة غيرها، وكانت مشهورة عند الناس. وان كنت اميل إلى كون التعريف للجنس. وجاءت مريم عليها السلام إلى النخلة، لتعتمد عليها عند الولادة ولتستتر بها. وقد ألهمها الله تعالى المجيء إلى النخلة، ليريها من آياته ما يسري عنها ويسليها ويهدئ اضطرابها، وسنرى تلك الآيات المعجزة بعد قليل. تأمل قوله تعالى مع ما سبق حكاية عنها “قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا” تجد ان تلك الآيات الكريمة تصور لنا من خلال الكلمات الواصفة والكاشفة عن مشهد آخر من مشاهد قصة السيدة مريم.
موقف عصيب
اننا نكاد نرى من خلال تلك الكلمات المصورة السيدة مريم البتول وهي تواجه آلامها الجسدية والنفسية، فها هي ذي تشق طريقها بحملها لتتوارى بعيدا عن أعين الناس وعن أهلها خوفا من المواجهة التي باتت وشيكة بينها وبينهم، خوفا من وصمها بما لم تقترفه ولم تتصف به أصلا في لحظة من لحظات حياتها، وتلك كانت آلامها النفسية، لأنها تتيقن ان الناس لن يصدقوا ان مولودها جاء من غير أب. أما آلامها الجسدية فتتمثل في تلك الآلام التي تشعر بها المرأة عند مخاضها، إنها تواجه طلق الولادة وحدها في مكان قصي، بعيدة عن اهلها ولا علم لها ولا خبرة بمثل تلك الأمور، ولا معين لها في شيء، ولا تملك من مقومات الحياة شيئا، ولذا فإنها تمنت الموت فقالت: “يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا” تمنت الموت خوف العار والفضيحة وهي الطاهرة البتول التي اصطفاها الله لتكون موضوع آية عظيمة من آياته. وحقيقة أريد ان اقف أمام الفاء في قوله تعالى: “فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة”، فقد أومأت إلى تلك الحالة التي كانت عليها مريم عليها السلام، وتعجبها مما بُشرَت به من الحمل والانجاب من دون زواج، وكيف أوصلتها البشارة بتلك المعجزة الكبرى الخارقة للعادة إلى حالة من الذهول والاستغراق في التفكير مما ينتظرها من مواجهة قومها ومجابهتهم بهذا الأمر الخارق غير المألوف، وما سيجلبه عليها ذلك من تقول واتهام لها في طهرها وعفافها، حتى انها تمنت الموت كما شرحنا قبل ان تواجه هذا الموقف العصيب. اقول: ان تلك الحالة من الاستغراق الفكري، والألم النفسي سرقت منها الزمن الممتد من حملها إلى مخاضها، حيث جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل، وقد سربت الفاء الشعور بزمن الحمل من بين اصابع مريم حتى اوصلتها مباشرة إلى حالة المخاض بعد تبشيرها بولدها نتيجة الحالة النفسية التي كانت عليها كما اشرت. هذا هو مسوغ العطف بالفاء، لأن التراخي الزمني المتمثل في مدة الحمل يناسبه حرف التراخي (ثم) ولكن أوثر العطف بحرف التعقيب الفاء، للدلالة على الذهول والاستغراق الفكري الذي كانت تعيشه مريم بعد بشارتها بالغلام كما فصلت. وأوثرت مادة المجيء على مادة الإتيان في قوله تعالى: “فأجاءها”، لما قلنا مرارا من ان مادة الإتيان تدل على السهولة واليسر، أما مادة المجيء فتدل على الصعوبة والقهر، فالإجاءة فيها قهر وغلبة، ومجيء المخاض فيه صعوبة واضطرار، ولذا كان من الملائم ايثار مادة المجيء.
تمني الموت
تعرفت الآن بالتفصيل إلى بعض الآلام الجسدية والنفسية التي اصابت مريم، إنه كرب عظيم دفعها إلى تمني الموت فرارا من عار الاتهام الظالم في شرفها وعفتها وطهارتها، فقالت: “يا ليتني مت قبل هذا” تأمل حالتها، انها تنادي “ليت” الدالة على التمني، وكأنها تقول: إنها تتمنى الموت، وتنادي أداة تمني الموت قبل هذا، لأن ذلك وقت تمني الموت فرارا من المواجهة، والاتهام بالباطل، أو أمنا من خوض الناس في المعصية بما افتروا عليها حتى لا تكون سببا في عذابهم وسخط الله عليهم أو جريا على عادة أهل الصلاح عند اشتداد الخطب عليهم وهذا مباح من جهة الدين كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه اخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم اكن شيئا. وعن بلال أنه قال: ليت بلال لم تلده أمه. والتعليلات السابقة لتمني مريم الموت اجابة عن سؤال سائل: لم تمنت الموت على الرغم من انها كانت تعلم ان الله تعالى بعث اليها جبريل وخلق ولدها من نفخ جبريل بأمره تعالى، ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين؟
وعُد إلى قول مريم “يا ليتني مت قبل هذا..” تجد في بيانها أمنية بعدم وجودها أو مجيئها إلى تلك الحياة اصلا قبل ان تُبَشر بهذا الحمل ولذلك قالت: “قبل هذا” بإسقاط حرف الجر (من) للإشارة إلى استغراق الزمان بالموت، فهي لم تتمن ان تكون قد ماتت بعد ظهور الحمل، (لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها، ولا المعرة عن أهلها اذ يشاهد اهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة).
والنسي: الشيء الحقير الذي شأنه ان ينسى ولا يتألم لفقده. تمنت ايضا لو كانت شيئا تافها حقيرا لا قيمة له شأنه ان ينسى ويترك ولا يؤبه له اصلا. والتعبير بالمصدر “نسيا” للمبالغة في النسيان، والوصف “منسيا” تأكيد تلك المبالغة في التعبير بالمصدر.
ونرجئ الاجابة عن السؤال: لماذا خلق الله عيسى من غير أب؟ إلى مقالة قادمة ان شاء الله، نتعرف فيها ايضا إلى كرامة ربانية أخرى لمريم عليها السلام، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
دلالة حرف الفاء
دلت الفاء في قوله سبحانه: “فانتبذت به” على مسارعة مريم عليها السلام إلى التواري والابتعاد بحملها عن اعين الناس، لأنها لا تقوى على مواجهتهم، وهكذا حملت هذه الفاء مريم عليها السلام بسرعة خاطفة إلى مكان تأمن فيه على نفسها وعلى حملها، ولو قيل: “فحملته ثم انتبذت به” لأشعر هذا بتلكئها في اعتزال الناس والابتعاد عن اتهاماتهم، وهذا غير مراد لمنافاته للحالة النفسية التي كانت عليها، والتي كانت تشعر بها، ولذا فإنها قررت من دون تردد أو تفكير الاعتزال والتواري في مكان بعيد، وهذا ما أوحى به حرف..::..
م.ق
يعطيج العافيه
ونترقب اليديد من صوبج
.:. يزاج الله خير وجعله الله في موازين حسناتج .:.
ربي لايحرمني منكن ^^
تحياتي لكن
تسلمين ع مرورج ^^
وجعله الله في ميزان حسناتك
لا عدمناااااااااااااج ان شاء الله
تحيااااتي لج
وفي ميزان حسناتج ان شا الله…
تحياتي:
@مناياااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا@