السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اذا كانت المرأة في الغرب تشعر بالفخر والاعتزاز لانها استطاعت الحصول بعد سنين من النضال على حقها في العمل، فإن المرأة في الامارات وجدت نفسها ومنذ نعومة اظافرها، تغوص في شتى ميادين العمل لتعيل اسراً باكملها، يبحر رجالها شهوراً وشهوراً في البحار. لم تتلق المرأة في الامارات قواعد مهنتها من على مقاعد الدراسة بل اكتسبتها وورثتها عن امها وجدتها ثم اتقنتها وروتها بعرق الجبين لتصبح بذلك جزءاً من ثقافة شعب ولتكون المرأة في الامارات ساهمت ومنذ الامد البعيد وبشكل جوهري في تكوين ثقافة هذا البلد العربي.
واذا كان التطور الاقتصادي والغزو التكنولوجي الغربي قد جعلنا نتناسى او نتنكر لهذا الماضي العريق، فإن المرأة التي يعود لها الفضل في بناء هذا الجزء من الثقافة، تساهم اليوم من جديد في احياء هذا الجزء من الثقافة من خلال عرض تقنية الحرفة امام جميع الزوار في قرية التراث خطوة ليست بالجديدة على حكومة دبي التي تصر على استنهاض الماضي وربطه بالحاضر وتقديمه باجمل حلة كي لا يبقى التراث لوحة معلقة على احد الجدران او كتاباً في احدى المكتبات. انطلاقاً من هذا، قامت ادارة القرية، بتأهيل عدد من طلبة المدارس وتعليمهم اصول هذه الحرف، لضمان وحفظ استمرارية هذا التراث في المستقبل القريب والبعيد.
وكما ذكرنا سابقاً، فإن احتراف هذه المهن لم يكن من قبيل التسلية وتمضية الوقت، بل كان حاجة ملحة لاغراض عديدة تأثيث المسكن، حياكة الثياب، صباغة القماش، صناعة البرقع.
صناعات لن تعجز الآلات الحديثة عن انجازها، ولكن تبقى جودتها عندما تتأني بأدائها ام أو اخت او زوجة.
الغزل والنسيج
الغزل هو من اقدم المهن التي احترفتها المرأة وهو بما فيه من صعوبة ودقة، يحرك فينا الحنين إلى تلك الاماكن التي احتضنت اباءنا واجدادنا، فهناك في هذه الخيمة او تلك، ولد احد ذوينا، وهناك ايضاً دندنت الامهات وربتت على اكتاف اطفالها ليغفوا بسلام، صور تلتصق بخيالنا كالتصاق الروح بالجسد. وعن علاقة الغزل بالخيمة تتحدث كل من السيدتين شيخة بنت حميد وعلياء بنت علي من الامارات: «صوف الغنم وشعر الماعز، هي المواد الاساسية التي نحتاجها في الغزل، تبرم هذه المواد على المغزل للحصول على الخيط، ثم تمر بمرحلة السدو للحصول على الدرية وهي كرة الصوف ومن هنا نبدأ بحياكة بيت الشعر الذي يغطي اعلى الخيمة وبعضاً من جوانبها لمقاومة برد الصحراء القارس في فصول الشتاء
ومن الصوف الخالص تصنع «الساحة»، قطعة جميلة تشبه البساط، توضع على ظهر الجمل، او تزين الخيمة وفي الشتاء تستخدم كغطاء. ومن الصوف ايضاً يصنع «الخرج» حيث تضع النساء ملابسهن واغراضهن ويمكن وضعه ايضاً على ظهر الجمل هذا الحيوان الذي واكب الاسرة الاماراتية في السراء والضراء، يحاك له البطان بألوان جميلة ومتناسقة.
ولتأثيث الخيمة او الدار، عملت المرأة «بالسفيف» وهو التفنن «بخوص» النخيل وعن هذه الحرفة تكلمنا الاخت فاطمة مرزوق سالم السعيدي: «تعلمت هذه الحرفة منذ سن السابعة وقد كان عملي فرضاً واجباً لانه مصدر رزقنا، عملت بالسفيف مدة طويلة ثم توقفت لاكثر من عشرين عاماً حتى منت علينا حكومة دبي بتخصيصها جزءاً من قرية التراث لعرض حرفنا، اما عن آلية العمل، فنحن نأخذ اقصاف النخل اليابسة، اذا تعذر وجود اليابس، نضع الخضراء منها في الشمس لتجف ولتأخذ هذا اللون القريب إلى العاجي، والورقة الجامة المائلة إلى الاخضرار، نصبغها بالوان عديدة كالوردي والاحمر والاخضر والازرق، ثم نشذبه وننظفه ونصنع منه «القدر» و«المشبه» وهي تشبه القبعة إلى حد ما وتستخدم لتغطية المأكولات، و«الصرود» او «السفرة» وهو ما يوضع عليه الطعام للتقديم والحصير الذي تفرش به الارضية كما يستخدم في القيط لبناء العريش للتظلل من حرارة الشمس وتتنوع النقوش بين «عين موزة» و«غولية» و«اناح الذباب».
التلي والبرقع
وعلى الرغم من انهماك المرأة شبه الدائم بعملها، الا انها اهتمت بجانبها الانثوي وتفننت في صنع «التلي» لتزيين ثوبها الفضفاض بسروالها الذي لم يفارقها في باب الحشمة. والتلي تعلمته معظم النساء في الامارات، من باب الاستخدام الشخصي، او للاستفادة المادية، وهي كما حدثتنا عنه الاخت بحيرة بنت مبارك عبارة عن مزج ستة خيوط للحصول على شريط يشبه الضفيرة، يضاف اليه الخيط الفضي، لنحصل على قطعة جميلة ومتناسقة من التلي، تحيكها المرأة على صدر «الكندورة» اي التوب وعلى الاكمام وقد يتطلب حياكة المتر الواحد ساعات طويلة وهذا دليل على ان المرأة كانت على درجة عالية من التأني والصبر في انجاز عملها لتحصل على قطعة فنية تتباهى بجماليتها امام الآخريات خاصة في الاعياد وفي الاعراس.
ووجه المرأة يغطى بالبرقع برونزوي اللون والذي يتم استيراد قماشه النيل من الهند. وتشرح الاخت فاطمة عبدالله قائلة: «بداية، نقرض القماش (نقصه) لنحصل على «طبجة» اي كمية كبيرة في البراقع بعدة قياسات الكبير والصغير والوسط على حسب وجه المرأة، ونبدز فيما بعد بخياطة كل برقع على حدة بدقة متناهية وقد يحتاج البرقع الواحد إلى ساعات طويلة من العمل ولطالما سهرنا ليالي على ضوء السراج لانجازه لانه كان احد مصادر رزقنا».
الصباغ
إلى جانب هذه الحرف، فقد عملت المرأة في الامارات بالصباغ وبرعي الاغنام وتقول مريم راشد انه كان من العيب جداً ان تبقى المرأة في مرقدها حتى الثامنة صباحاً، فكانت تستيقظ مع كلمة «الله أكبر» ليبدأ نهارها وتبدأ معه شتى انواع العمل: «غالباً ما تواجدت المرأة وحدها في الدار، مسئولة عن الاسرة باكملها، بسبب غياب الرجال الطويل والمتكرر، وكنت اذهب إلى المرعى في سن مبكرة، ارعى قطيعاً باكمله وتعلمت مهنة الصباغ من افراد اسرتي وكنا نصبغ القماش الابيض بواسطة الرمان للحصول على اللون الوردي وببذور «الورص» للحصول على الاصفر، ومن شجرة القرط للحصول على الاسود وكان القماش يترك منقوعاً لمدة اسبوع في الحياة الملونة لعدم تلفه فيما بعد» وتنتهي حديثها بالقول : «تعلم كل مهرة واتركها. وان حاجك الزمن ارجع لها».
نهاية، لا يسعنا الا نحني رؤووسنا احتراماً وتقديراً لهؤلاء السيدات اللواتي ساهمن في غرس بذور التراث هذه البدور التي اضحت اشجاراً مثمرة، تحتمي في ظلها ثقافة الماضي والحاضر والمستقبل.
تقبلوا احترامي وتقديري
تحياتي