السعادة هي صورة ذهنية، وقناعة نفسية قلبية، السعادة عادة، السعادة فنّ وصناعة ..
ليست السعادة معلقة على ظروف خارجية، وإنما هي قناعة داخلية .. عندما يصحح الإنسان صورته الذهنية عن السعادة ومعناها، سيجد نفسه سعيداً جداً، وهذا المبدأ لَمّح عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس” أي أسعد الناس، وبقوله عليه السلام: “ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ – عن كثرة المال والممتلكات – وإنما الغنى غنى النفس”
وفي حديث صحيح آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟” قلت: نعم. قال:”وترى قلة المال هو الفقر؟” قلت: نعم يا رسول الله قال:”إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب”.
الغنى النفسي والقلبي هو السعادة .. وهو ما يسمى بالصورة الذهنية الصحيحة عن الحياة، وعن مفهوم السعادة، وعن كيفية فصل السعادة القلبية النفسية عن الظروف الخارجية ..
نرى كثيراً من الناس المرضى، والفقرا، والمعاقين، والمحتاجين والمبتلين .. وهم في قمة السعادة .. لأنهم قنعوا وتحرروا من ربط الظروف الخارجية بالسعادة القلبية، فصحت عندهم الصورة الذهنية عن مفهوم الحياة والسعادة ..
قالت “هيلين كيلر” المرأة الأمريكية التي ابتليت بالعمى والصمم: “ما أكثر ما نفكّر فيما ينقصنا وما أقلّ ما نفكّر فيما لدينا” هذه المرأة العمياء الصمّاء تقول هذا الكلام مع أنها فقدت أعز نعمتين على الإنسان: البصر والسمع، ومع هذا نظرت إلى ما بقي عندها ولم تنظر إلى ما فقد من عندها، هذا عنصر مهم في السعادة.
لذلك تقول عن مفهوم السعادة: “عندما يُغلق باب السعادة، يُفتح آخر، ولكن في كثير من الأحيان ننظر طويلاً إلى الأبواب المغلقة بحيث لا نرى الأبواب التي فُتحت لنا”
في نظر هيلين: فقدت باباً من السعادة: البصر والسمع، ولكن في نظرها فُتح لها أبواب كثيرة من السعادة.
وجميل قول الشاعر:
العبدُ حرٌّإنْ قنـــع**والحرُّ عبدٌإن طمع
فاقنع ولا تطمع فلا**شيء يشين سوى الطمع
الإنسان السعيد الحر إن اقتنع في نفسه بأن السعادة الداخلية لا ترتبط بالظروف الخارجية.
والعبد التعيس الأسير .. هو الذي يربط السعادة الداخلية بالظروف الخارجية، وهو إنسان عبد أسير لِما حوله ولِمَن حوله، يسعى طول حياته لإرضاء من حوله، ويسعى طول عمره إلى كمال ظروفه الخارجية ليحصل على السعادة الداخلية .. ولن يقدر على هذا ما دام حياً .. وقد قرّر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يقدر أن يعيش سعيداً مهما كانت ظروفه الخارجية، سارة أو ضارة، فقال: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، (أي قادر أن يعيش بسعادة في أي ظروف) وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”
إذن كل شيء في الكون يمكن أن يكون مصدر سعادة داخلية للإنسان، وهذا المفهوم لا يفهمه أي أحد، إلا المؤمن المنوَّر في قلبه وعقله وفهمه بنور الإيمان، فيفصل أولاً الظروف الخارجية عن السعادة القلبية. ويجعل الصورة الذهنية صحيحة سليمة عن الظروف الخارجية بحيث لو نزل به سراء شكر فاستمتع وسعد، ولو نزلت به شدة ونزل به بلاء، صبر الصبر الجميل فسعد واستمتع .. وبهذا يكون كما قال عليه السلام: “عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له”
لكن كيف يمكن أن أصنع صورة ذهنية صحيحة لأعيش سعيداً في وسط الظروف الخارجية مهما كانت هذه الظروف صعبة؟
العملية ليست بهذه البساطة، فلا بد من الاستشارة، وبذل الجهد والوقت، ولا بد من الثقافة ولا بد من الصبر والممارسة والتعوّد .. لأن ربط السعادة الداخلية .. بالظروف الخارجية أخذ وقتاً طويلاً حتى تبرمجنا عليه وتعودناه، فلابد من وقت طويل أيضاً من أجل فصل السعادة الداخلية عن الظروف الخارجية .. موقفاً موقفاً، وفرصة فرصة، وحيناً حيناً .. وأهم خظوة للوصول إلى السعادة الداخلية: المداومة على خطة معينة لإسعاد النفس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ” وقالت عائشة رضي الله عنها: “أَحبّ الأعمال إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي يُداوم عليه صاحبُه وإنْ قَلَّ”
السعادة عادة .. فمن بدأ يعوّد نفسه على السعادة ستكون في حياته السعادة: عادة .. كما كان من قبل: التعاسة عادى في ظل الظروف الصعبة .. ويمكن أن يغير هذه العادة، فتصير عنده السعادة عادة في ظل الظروف الصعبة ..
السعادة صناعة .. فمن سعى إلى صناعة السعادة في حياته ستصير السعادة قناعة قلبية وداخلية في نفسه .. وكل صناعة مهمة في الحياة ستأخذ وقتاً وجهداً، وتستحق النفسُ هذا الوقت والجهد لأن السعادة ثمينة وغالية، ولأن النفس ثمينة وغالية، وليست النفس هينة على صاحبها حتى يستكثر عليها الوقت والجهد من أجل السعادة .. }ولقد كَرَّمْنا بني آدم{ فالإنسان كرّمَه الله، فيجب على الإنسان أن يُكَرِّمَ نَفْسَه ويُقدّرَها ويُسعدَها ببذل الجهد والمال والوقت ..
ما هو البرنامج الذي يسعد الإنسان؟ وما هي الخطوات العملية لتحقيق السعادة الداخلية؟ بغض النظر عن الظروف الخارجية؟
سنتكلم عن هذا في الأيام القادمة إن شاء الله