فقد أتى صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، إخلاص العبادة لله عز وجل، وترك عبادة ما سوى الله من الأولياء والصالحين أو غيرهم، هذا هو دين الرسل، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل: 36] فهذا هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، الدعوة إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وبقية الإصلاحات تأتي تبعًا لذلك.
والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، ليس فيه شرك، وأيضًا لابد أن يكون العمل موافقًا لما شرعه الله سبحانه وتعالى، فالله لا يقبل العمل الذي فيه بدعة ولا ما كان فيه شرك، قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110]، وقال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } [النساء: 36] لم يقتصر على الأمر بعبادة الله، بل نهى عن الشرك؛ لأن عبادة الله لا تقبل إذا كان فيها شرك، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا } [البقرة: 256].
وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فهي مكونة من نفي وإثبات، نفي الشرك، وإثبات التوحيد، (لا إله) إبطال لجميع المعبودات (إلا الله) إثبات لعبادة الله وحده، فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، ولا يقبل العمل الذي فيه بدعة ومخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " [أخرجه مسلم (رقم 1718/18) والبخاري تعليقًا في كتاب الاعتصام، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود.]، وفي رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم (رقم1718/17).] ولذلك قال العلماء: إن العمل لا يقبل إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل، والشرط الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا اختل أحد الشرطين؛ لم يقبل هذا العمل، ولم يكن عملاً صالحًا.
وأخبر جل وعلا أن من عبد ما يستحسنه من الأصنام والأولياء والأشجار والأحجار والقبور، ولم يرجع في العبادة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما اعتمد على الاستحسان أو على ما تهواه نفسه، ولو خالف الكتاب والسنة، أخبر الله جل وعلا أن الله قد حرم عليه الجنة ومأواه النار، قال تعالى: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [المائدة: 72] يعني: منعه من دخول الجنة منعًا باتًا، فالتحريم في اللغة: المنع، فالمشرك ممنوع من دخول الجنة بتاتًا، لا طمع له فيها، ومأواه النار، هذه عاقبة الشرك بالله عز وجل، وإن كانوا يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3]، هؤلاء إذا ماتوا على ذلك، غير تائبين، حرم الله عليهم الجنة، وجعل النار مأواهم أبد الآباد. فالذي يريد لنفسه النجاة يتنبه لهذا، ولا يبقى على أمور الجاهلية في هذا وغيره.
وقوله رحمه الله: (وهذه المسألة هي التي تَفَرَّقَ الناس لأجلها بين مسلم وكافر) يعني مسألة التوحيد والشرك، جماعة صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وأخلصوا العبادة لله عز وجل، هؤلاء مؤمنون، وقوم خالفوه وبقوا على شركهم وعبادتهم، وما كان يعبده آباؤهم من قبل، كما عليه أمم الكفر الذين يعارضون الرسل؛ لأنهم يريدون البقاء على ما كان عليه آباؤهم، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23]، وقالوا: { أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } [هود: 62]، هذه مقالتهم وحجتهم، وهي التمسك بما عليه الآباء والأجداد، من عبادة غير الله عز وجل.
وقوله رحمه الله: (وعندها وقعت العداوة) أي: بين الموحدين والمشركين، بين المؤمنين والكفار، فإنه يجب على المؤمنين أن يعادوا الكفار، فلا تجوز محبة الكفار حتى ولو كانوا أقرب الناس، قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22] فلابد من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين، والشرك والمشركين { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: 4] هذه ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
أما الذين ينادون الآن بالمحاورة بين الأديان، والمفاهمة بين الأديان، وأنها كلها أديان سماوية؛ بل بعضهم يتجرّأ ويقول: لا تكفر اليهود والنصارى. فهذا خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخلاف ما جاء به القرآن، وخلاف ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [التوبة: 23] وهؤلاء يقولون: اليهود والنصارى أهل كتاب وأهل إيمان، وكلها أديان من عند الله، نتفاهم فيما بيننا ونتعاون، ولا تكفرون اليهود والنصارى. هذه دعوة الآن قائمة، وهي قضاء على الولاء والبراء بين المؤمنين والكفار، كل من لم يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، سواء كان كتابيًا أو غير كتابي؛ لأنه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدًا إلا أن يؤمن به، فمن لم يؤمن به فهو كافر، واليهود والنصارى لا يؤمنون بالرسول، فهم كفار، قال صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يَسمَعُ بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهوديٌّ أو نصرانيٌّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النَّارِ" [أخرجه مسلم (رقم 153).] فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدًا الخروج عن ملته، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام: "والله لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي".
فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دين صحيح غير دين الإسلام { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85].
فهذه دعوة باطلة، تعقد لها الآن مؤتمرات وندوات، وتنفق فيها أموال للدعوة للتقارب بين الأديان – يسمونه – الحوار بين الأديان. سبحان الله ! حوار بين إيمان وكفر ؟! وبين شرك وتوحيد ؟! بين أعداء الله وأولياء الله ؟!
ثم قال الشيخ رحمه الله (ولأجلها شُرع الجهاد، قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الأنفال: 39]).
فالواجب علينا نحو الكفار: ثلاثة أمور:
الأمر الأول: عداوتهم؛ لأنهم أعداء لله سبحانه وتعالى، وأعداء لرسوله.
الأمر الثاني: دعوتهم إلى الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا أمر واجب على المسلمين.
الأمر الثالث: جهادهم إذا دُعوا إلى الإسلام وأبوا فالواجب جهادهم وقتالهم، قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الأنفال: 39]، فالمرحلة الأخيرة معهم القتال، إذا كان المسلمون يطيقون القتال، قال تعالى: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة: 5] الآية، وهذه الآية فيها بيان الحكمة من الجهاد في الإسلام، وأنها: إزالة الشرك، حتى لا تكون فتنة، والمراد بالفتنة: الشرك، أي حتى لا يوجد شرك، ويكون الدين كله لله، هذا هو المقصود من الجهاد، ليس المقصود من الجهاد توسيع السلطة والاستيلاء على الممالك، وحصول الثروة، ليس هذا هو المقصود، المقصود إعلاء كلمة الله عز وجل، وإزالة الشرك من الأرض، هذا هو المقصود.
وكذلك ليس المقصود من الجهاد في الإسلام الدفاع، كما يقوله بعض الكتاب المخذولين، يقولون: إن الإسلام لا يأمر بقتال الكفار؛ لأنه وحشية، لكن القتال الذي في الإسلام من أجل الدفاع، يعني: إذا اعتدوا علينا نحن نقاتلهم؛ لصد العدوان فقط. سبحان الله ! الله جل وعلا يقول: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5]، { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الأنفال: 39] المقصود بالقتال في الإسلام: نشر الدعوة، ونشر الدين، وإزالة الشرك { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الأنفال: 39]، هذا هو المقصود منه، فالقتال في الإسلام على نوعين:
النوع الأول: قتال دفاع، عند عجز المسلمين.
النوع الثاني: قتال طلب، عند قوة المسلمين وقدرتهم عليه.
منقول من كتاب {شرح مسائل الجاهلية }للشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله